اسم الکتاب : تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل المؤلف : البيضاوي، ناصر الدين الجزء : 1 صفحة : 67
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه تعليل كأنه قال: ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب، والترتيب الأنيق كان عليماً، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعد ما تبددت، وتفتتت أجزاؤها، واتصلت بما يشاكلها، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان، ونظيره قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
واعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين: أما الأولى فهي:
أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير. وأما الثانية والثالثة: فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها، قادر على جمعها وإحيائها، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراعي فيه مصالحهم وسد حاجاتهم.
وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته. وقد سَكَّنَ نافع وأبو عمرو والكسائي: الهاء من نحو فهو وهو تشبيهاً له بعضد.
[سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له، إنعام يعم ذريته. وإذ: ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع إذا لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان، وبنيتا تشبيهاً لهما بالموصولات، واستعملتا للتعليل والمجازاة، ومحلهما النصب أبداً بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه، وأما قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ونحوه، فعلى تأويل: اذكر الحادث إذ كان كذا، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه، وعامله في الآية قالوا، أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولاً له صريحاً في القرآن كثيراً، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة، مثل وبدأ خلقكم إذ قال، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة. وعن معمر أنه مزيد. والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل، والتاء لتأنيث الجمع، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي: الرسالة، لأنهم وسائط بين الله تعالى، وبين الناس، فهم رسل الله. أو كالرسل إليهم. واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك. وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان. وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين: قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وهم المدبرات أمراً، فمنهم سماوية، ومنهم أرضية، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع.
والمقول لهم: الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل ملائكة الأرض، وقيل إبليس ومن
اسم الکتاب : تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل المؤلف : البيضاوي، ناصر الدين الجزء : 1 صفحة : 67